السياسى والمثقف.. أين يلتقيان ولماذا يختلفان؟
فى شخصية كل إنسان قدر من صفة العالم والباحث والشاعر والمشرف والمدير والناقد والسياسى
والمثقف. وشخصيات البشر تختلف بعضها عن بعض. ويتجلى الاختلاف فى قوة أو ضعف كل صفة من هذه الصفات أو المكونات. وللسياسى المحترف تعاريف. وأحدها هو انه الشخص الذى يسعى بشتى الوسائل إلى اكتساب التأثير لتحقيق أهداف معينة. ومن أهم هذه الأهداف تولى السلطة الحكومية وغير الحكومية، الرسمية وغير الرسمية. ويكون هذا السعى لدى الأشخاص غير السياسيين المحترفين أقل قوة وطغيانا. وكلما ازدادت هذه الصفة قوة، ازدادت فيه صفة السياسى المحترف تعززا وبالعكس.
ومن هنا، فان للسياسيين المحترفين تأثيرا شاملا وعميقا. ونظرا إلى هذا التأثير فلهؤلاء السياسيين شطر أكبر فى تقرير حاضر ومستقبل الشعوب والدول والمجتمعات وفى تقرير طبيعة ظروف حياتها ومعيشتها الإقتصادية والأمنية. ونظرا الى خطورة الدور الذى يؤديه السياسيون المحترفون من اللازم أن تكون لفئات من الشعب أدوار تؤديها فى توجيههم وجهة المصالح العامة، وفى طرح طرق بديلة تراها هذه الفئات سليمة من منظور تأمين حياة أفراد الشعب والحفاظ على دينهم وعرضهم وكرامتهم، وفى توجيه النقد إلى الممارسات الحكومية وغير الحكومية التى تمس بمصلحة أفراد الشعب. وفى أداء هذه الأدوار لجميع أفراد الشعب، وخصوصا المثقفين، مكان.
دينامية شخصية السياسى المحترف والمثقف
يتوقف تكوين شخصية السياسى المحترف وشخصية المثقف على شتى الظروف المتغيرة باستمرار، ويتوقف مدى التوتر بينهما على تلك الظروف. ونظرا إلى أن للظروف الاجتماعية والنفسية وغيرها المتفاعلة أثرها فى تحديد قوة طغيان السعى إلى ممارسة التأثير وتولى السلطة فإن شخصية السياسى المحترف دينامية وشخصية الإنسان غير السياسى المحترف دينامية، والعلاقة بين السياسى المحترف والإنسان غير السياسى المحترف دينامية. وبحكم هذه الحالة فإن العلاقات بين السياسى المحترف والإنسان غير السياسى المحترف يمكن أن تكون من سماتها العديدة استبعاد السياسى المحترف للمثقف أو تقريبه منه أو علاقة لا تنطوى على الاستبعاد أو التقريب.
وابتغاء معرفة شخصية المثقف وشخصية السياسى المحترف لا تكفى معرفة المكونات جميعها فى شخصية كل منهما، ولكن من اللازم أيضا معرفة أثر كل مكون من هذه المكونات وهى تتفاعل مع مجموعة الظروف المتغيرة باستمرار. وأثر تلك الظروف فى مكونات الشخصية يتغير أيضا تبعا لتغير أثر تلك الظروف بعضها فى بعض، مما يجعل أثرها فى مكونات الشخصية مختلفا، وبالتالى تتغير أيضا القوة النسبية لكل مكون من هذه المكونات. يرى هذا العرض أن مفاهيم الشخصية بمكوناتها المختلفة وفى الظروف المختلفة والمتغيرة وفى التفاعل بين هذه المكونات والظروف مفاهيم ذات صبغة دينامية وليست ذات صبغة ساكنة ثابتة. والوجه الثابت فى تلك المفاهيم أنها دينامية. ولا بد من معرفة هذه الصفة ابتغاء معرفة طبيعة العلاقات الاجتماعية ومعرفة شخصية السياسى المحترف وشخصية الإنسان الذى لديه قدر أقل أو أكبر من الثقافة. ولا يمكن الإتيان بفكر وصفى وتحليلى وتفسيرى وتنبؤى دقيق دون معرفة هذه الصفة الجوهرية التى تتصف المفاهيم بها. وبعبارة اخرى، لا تمكن معرفة الواقع دون معرفة هذه الصفة.
ولاختلاف مكونات شخصية المثقف وشخصية السياسى المحترف، تختلف أساليب العمل والتعامل مع الناس والأشياء. فى شخصية السياسى المحترف مكون النزعة إلى الاستفادة - دون التقيد بالضرورة بالوازع الأخلاقي- من الممكن والواقع أكبر من ذلك المكون فى شخصية المثقف، ومكون الاهتمام بالقضايا الشخصية أكبر من ذلك المكون فى شخصية المثقف. وفى شخصية المثقف تكون النزعة إلى النقد أكبر من ذلك المكون فى شخصية السياسى المحترف. وفى شخصية المثقف مكون النزعة إلى التغيير أو عدم التغيير لاعتبارات عامة أكبر من ذلك المكون فى شخصية السياسى المحترف.
ومكون النزعة فى السياسى المحترف إلى البطش بالخصم أكبر من ذلك المكون فى شخصية المثقف الذى فى شخصيته قدر أكبر من الارتداع عن البطش بالذين يخالفونه الرأى وهامش أكبر من التسامح أو التغاضى أو صرف النظر. وبحكم شخصية السياسى المحترف لديه قدر أكبر من الاستعداد لأن يغلب ما يريد تحقيقه على مراعاة مقتضيات مُثُل معينة. ولديه، بسبب حافزه القوى على ممارسة التأثير والسلطة، قدر من التأثير فى الدولة والمجتمع أكبر من تأثير المثقف. وبذلك التأثير يستطيع السياسى المحترف أن يحقق أغراضا لا يستطيع المثقف أن يحققها. ويحتاج المثقف أحيانا غير قليلة إلى السياسى المحترف رغم أنه – أى المثقف – قد لا يقبل بالأساليب والوسائل التى حصل بها السياسى المحترف على التأثير الذى يجعل المثقف فى حاجة إليه.
التوتر بين المثقف والسياسى المحترف
وللظروف الاجتماعية والتاريخية وللتكوين الفكرى والنفسى لأفراد المجتمع أثرها فى موقف المثقف ونظرته ودوره. ونظرا إلى أن المثقف أشد وعيا ببعض الأمور يمكنه ويتعين عليه أن يؤدى دورا أقوى أثرا. يمكنه من خلال كلمته أو قلمه أن يقوم بمسح المشاكل ووصفها وتحليلها وأن يتوصل إلى الاستنتاج وأن يشيع فكره على نطاق أوسع. وبسبب الاختلاف فى مكونات الشخصية بين السياسى المحترف والمثقف وأيضا لاختلاف أساليب العمل والتعامل مع الناس والأشياء يشوب التوتر العلاقة بينهما. وبسبب هذا الاختلاف، قد توجد لدى المثقف أسباب لرفض مواقف ووجوه سلوك يتخذها السياسى المحترف أكثر من الأسباب التى لدى السياسى المحترف لرفض مواقف ووجوه سلوك يتخذها المثقف.
اعتبارات السياسة لا تراعى بالضرورة متطلبات الإبداع
والنظم غير الديمقراطية لا تحتمل ممارسة حرية التعبير عن الرأى الذى لا يتفق مع مصالح تلك النظم فى مواصلة تولى السلطة السياسية الرسمية وغير الرسمية. ولا تتردد هذه النظم فى لجم لسان المفكر الحر الناقد وتحطيم قلمه وحرمانه من مصدر رزقه وتجويعه وفى سجنه وحتى الفتك به.
من طبيعة المناخ السياسى السائد فى أية بقعة من بقاع المعمورة، وعلى وجه الخصوص فى البلدان غير الديمقراطية وفى بلدان العالم النامي، أنه ليس مواتيا بالضرورة لبلوغ الإبداع الأدبى والفنى والفكري. ومرد عدم ضرورة المواتاة هذا هو أن اعتبارات السياسة – التى هى طريقة تحقيق التأثير لتحقيق غرض معين – لا تراعى بالضرورة متطلبات تحقيق الإبداع. تحقيق التأثير ينطوى على التقييد الفكرى والعاطفي، بينما يتطلب الإبداع الانطلاق الفكرى والعاطفي، ويتطلب الإبداع الفكر النقدى الذى قد تثنى عنه الاعتبارات السياسية. وبسبب هذه المشكلة لا ينقل الفكر، ناهيكم عن الفكر النقدى الذى قد يجول فى خواطر الناس إلى الساحة العامة إذا كان ذلك الفكر معارضا أو غير مؤيد لسياسة أصحاب السلطة الحكومية، وينكمش الميل لدى المفكر الناقد إلى الإبداع الفكري، أو قد يرى هذا المفكر، اتقاء لغائلة أصحاب السلطة المتربعين على سدة الحكم، تقييد انطلاق الفكر النقدى أو قد يرى أن ينتقي، فى تناوله الفكرى النقدي، بعض المواضيع التى لا يرى هو أن من المحتمل أن من شأن تناوله هذا أن يوجد صراعا بينه وبين أصحاب تلك السلطة، أو قد يرى تخفيف حدة لهجة النقد فى المواضيع التى يجدر إعمال الفكر النقدى فيها.
ونظرا الى أن الحكومة غير الديمقراطية هى المالكة لسلطة صنع القرار وهى المالكة لوسائل إنفاذ القرار ونظرا إلى أنها معنية فى المقام الأول ببقائها فى مواقع السلطة فإنها فى مواجهتها لتلك الاعتبارات المذكورة أعلاه تتخذ على الأغلب قرارا يراعى الاعتبارات التى توليها الأولوية الأولى ولا يراعى المراعاة الواجبة والكافية للاعتبار الذى لا توليه الأولوية الأولى. وفى حالة التعارض بين اعتبارات مواصلة الإمساك بمقاليد السلطة، من ناحية، واعتبارات الوفاء بحاجات الشعب الاقتصادية والنفسية والسياسية، من ناحية أخرى، عادة تولى الحكومة غير الديمقراطية الأولوية للاعتبارات الأولى. وفى حالة ارتباط مواصلة الحكومة غير الديمقراطية لتولى مقاليد السلطة بالدول العظمى – وهو ما هو حاصل فى حالات كثيرة – فلهذا الاعتبار وزن أكبر لدى الحكومة فى قراراتها وسياساتها وإجراءاتها. طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكومين تسهم إسهاما كبيرا فى تفسير كثير من الظواهر الإجتماعية فى الدولة والمجتمع. ودراسة العلاقة بين أصحاب السلطات الرسمية، من ناحية، والمحكومين، من ناحية أخرى، طريقة تؤدى إلى فهم طبيعة النظام السياسى وتسهم فى فهم العلاقات الاجتماعية فى الدولة.
بيد أن هذه العلاقة ليست العامل الوحيد المفسر لظاهرة من الظواهر. وفصر تفسير ظاهرة من الظواهر بعامل واحد فقط ينطوى على إهمال لتاريخية الظواهر الاجتماعية.
والاقتصار أيضا على الأخذ بعامل واحد – مثلا عامل الاستبداد والظلم – فى دراسة العلاقة بين الحاكم والمحكوم طريقة يعتورها النقص، لأن هذه الطريقة تنطوى على إهمال لتاريخية الظواهر الاجتماعية.
والقول بأن التاريخ هو "قراءة" الحاضر أو هو القيام من منظور الحاضر بقراءة الماضى يعتوره النقص وذلك لأن هذا القول لا يراعى تاريخية الظواهر الاجتماعية.
العلاقة بين حجم دور المثقف وطبيعة نظام الحكم
وتقوم علاقة متبادلة بين طبيعة نظام الحكم وحجم الدور الذى يؤديه المثقف. يحتمل احتمالا أكبر أنه يؤدى دورا فكريا وإعلاميا وتنويريا أكبر فى ظل النظم الأكثر ديمقراطية ودورا أقل فى ظل النظم الاستبدادية والشمولية والإملائية. فى ظل النظم الأكثر ديمقراطية للمثقف متسع أكبر لأخذ زمام المبادرة فى المجال الثقافى والفكرى ومتسع أكبر للحرية الفكرية وللإعراب عن الرأي. وفى ظل النظم الاستبدادية والشمولية لا يوجد مثل هذا المتسع. وبالتالى فإن المثقف فى النظم الأكثر ديمقراطية يحتمل احتمالا أكبر أن يؤدى دورا أكبر وأشد أثرا فى تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية وفى الإسهام فى وضع سياسة الدولة فى هذه المجالات وفى تكوين مستقبل البلد والمجتمع وفى تحديد هوية القيم والرؤى التى يستلهمها الشعب. زفى ظل النظم الاستبدادية والشمولية يكون للسلطة الحكومية فيها دور أكبر فى تحديد دور المثقف فى هذه المجالات وفى وضع سياسة الدولة فيها.
تحجيم الحكومة لدور المثقف يضر بالشعب وبالدولة
وينطوى تقييد المتولين للسلطة الحكومية لدور المثقف فى المشاركة فى وضع سياسة الدولة على إلحاق ضرر كبير بالشعب والمجتمع والدولة. إذ بقيام أصحاب السلطة الحكومية بذلك وبإيلائهم الأولوية لاعتبارات ومقتضيات مواصلة البقاء فى سدة الحكم يحجبون عن أنفسهم وعن الشعب رؤية بدائل أخرى فى حياة الشعب والمجتمع قد تكون أكثر صلاحا من البديل الذى يأخذ به أصحاب السلطة ويحجبون عن أنفسهم وعن الشعب أيضا رؤية تحديات وتهديدات أو فرص وشيكة أو كامنة أو ممكنة للشعب والدولة. ومن شأن هذا الحجب ألا يتيح للمتولين للسلطة ولأفراد وجماعات من الشعب التصدى بالوسائل الفكرية والمالية والعملية المتاحة لهذه التحديات والتهديدات وألا يتيح لهم ولأفراد وجماعات من الشعب معرفة كيفية اغتنام الفرص المبشرة بالخير التى من شأن اغتنامها أن يكون له الأثر الكبير فى تحسين حالة الشعب ومستقبله ومصيره.
ونتيجة عن ذلك يضعف او يزول – إن كان موجودا – أساس توافق المجتمع، ويتخذ الناس من المتولين للسلطة موقفا متحفظا أو معاديا، ولا يعتبر الناس السلطة مصدر عون لهم، وينتفى فى تلك الحالة مفهوم رئيسى من مفاهيم السلطة الرسمية وهو أن تؤدى وظيفة الخدمة لأفراد الشعب. وفى هذا الجو قد ينفق قدر كبير من طاقة السلطة والشعب ليس على محاولة تحقيق الانسجام الاجتماعى ومصالح الشعب، ولكن على تعزيز كل طرف لمواقعه حيال الآخر.
[center]